ماذا علمتنا الجائحة عن تخطيط استمرارية الأعمال؟
في مطلع عام 2020، تغير وجه العالم بأكمله بسبب جائحة فيروس كورونا (COVID-19)، حيث واجهت المؤسسات من جميع الأحجام تحديات غير مسبوقة أجبرتها على إعادة التفكير في نماذج العمل، وأولويات الاستثمار، وأهم من ذلك، استراتيجيات خطة استمرارية الأعمال. لقد كانت الجائحة بمثابة اختبار عالمي واقعي لمدى جاهزية الشركات والمؤسسات لمواجهة الكوارث، سواء كانت صحية، اقتصادية، أو تكنولوجية.
قبل الجائحة، كان يُنظر إلى خطة استمرارية الأعمال في كثير من الأحيان على أنها وثيقة روتينية تُعد مرة وتوضع على الرف، ولكن الأحداث التي عاشها العالم أكدت أنها عنصر استراتيجي حيوي لا غنى عنه لأي منظمة تطمح إلى النجاة من الأزمات والحفاظ على استقرارها التشغيلي.
1. التحديات التي كشفتها الجائحة
أ. الاعتماد على الموقع المادي
أبرزت الجائحة بشكل كبير مدى اعتماد كثير من المؤسسات على التواجد المادي في أماكن العمل. فعندما فُرضت الإغلاقات الشاملة، واجهت المؤسسات التي لم تعتمد على حلول رقمية صعوبات في الحفاظ على عملياتها، بينما تفوقت المؤسسات التي كانت قد استثمرت في البنية التحتية للعمل عن بُعد.
ب. سلاسل التوريد المعقدة
كشفت الأزمة عن هشاشة سلاسل التوريد العالمية، حيث أدى توقف الإنتاج في بعض الدول إلى توقف أو تعثر عمليات التصنيع والتوزيع في دول أخرى. هذا الدرس شجع العديد من الشركات على تنويع مصادر التوريد وتقييم المخاطر المرتبطة بالتوريد الدولي.
ج. افتقار الخطط الواقعية
بعض المؤسسات كانت لديها "خطط طوارئ"، لكنها لم تكن محدثة أو قابلة للتنفيذ عمليًا. فبينما تعاملت تلك الخطط مع سيناريوهات مثل الكوارث الطبيعية أو الهجمات السيبرانية، لم تكن مستعدة للتعامل مع أزمة صحية عالمية ممتدة زمنيًا.
2. الدروس المستفادة من الجائحة
أ. أهمية التحول الرقمي
أثبتت الجائحة أن التحول الرقمي لم يعد رفاهية بل ضرورة. المؤسسات التي كانت قد تبنت التكنولوجيا في عملياتها، سواء في الإدارة أو الإنتاج أو التسويق، تمكنت من الاستمرار بمرونة أكبر. لقد علمتنا الجائحة أن الاستثمار في الأدوات الرقمية، كأنظمة الحوسبة السحابية، والتعاون عن بُعد، والتجارة الإلكترونية، يعزز من قدرة المؤسسة على التعامل مع الطوارئ.
ب. ضرورة وجود خطة واضحة ومرنة
الدرس الأهم من الجائحة هو أن المؤسسات بحاجة إلى خطة استمرارية الأعمال متكاملة، شاملة، ومبنية على تقييم حقيقي للمخاطر. يجب أن تكون الخطة مرنة وقابلة للتعديل حسب تغير الظروف، وتتضمن سيناريوهات متعددة للطوارئ المحتملة، وليس فقط الأحداث التي تم تجربتها سابقًا.
ج. التركيز على رأس المال البشري
الموظفون هم العمود الفقري لأي منظمة، وأظهرت الجائحة أهمية رفاههم وصحتهم النفسية والجسدية. يجب أن تشمل خطة استمرارية الأعمال إجراءات لدعم الموظفين، سواء من خلال توفير العمل عن بُعد، أو الدعم النفسي، أو التسهيلات الصحية.
د. بناء ثقافة مرنة
المرونة ليست فقط في الأنظمة، بل في الثقافة التنظيمية. المؤسسات التي شجعت على الابتكار، وأعطت موظفيها حرية اتخاذ القرار، كانت أكثر قدرة على التكيف. المرونة الثقافية تعني أن المؤسسة مستعدة دائمًا لتغيير المسار والتعلم من التحديات.
3. مكونات خطة استمرارية الأعمال الفعالة بعد الجائحة
بعد التجربة العالمية التي مرت بها المؤسسات، يمكن إعادة تصور خطة استمرارية الأعمال لتشمل العناصر التالية:
- تقييم شامل للمخاطر: ليس فقط الكوارث الطبيعية أو الهجمات الإلكترونية، بل يجب تضمين الأوبئة، الأزمات السياسية، والتقلبات الاقتصادية.
- تحديد العمليات الحرجة: ما هي الأنشطة التي لا يمكن توقفها؟ ومن هم الموظفون الأساسيون؟ وما الموارد التي تحتاجها المؤسسة للاستمرار؟
- الجاهزية التكنولوجية: التأكد من وجود أدوات تمكن الموظفين من العمل عن بُعد، وضمان أمان البيانات والبنية التحتية الرقمية.
- خطة تواصل داخلي وخارجي: توضيح كيفية التواصل مع الموظفين، العملاء، الموردين، والجهات التنظيمية في حالات الطوارئ.
- التدريب والاختبار الدوري: يجب أن يتم اختبار الخطة بانتظام من خلال تمارين محاكاة، وتدريب الموظفين على الأدوار المتوقعة منهم في حالات الطوارئ.
- المرونة المالية: توفير احتياطي نقدي، أو خطط بديلة للتدفق المالي تُمكن المؤسسة من النجاة من فترة انقطاع أو تراجع في الإيرادات.
4. كيف يمكن للمؤسسات الاستعداد للمستقبل؟
مع أن الجائحة قد تكون خلفنا من ناحية التأثير المباشر، إلا أن التحديات المستقبلية لا تزال قائمة. التغير المناخي، التحول الرقمي، الأزمات السياسية، والتهديدات السيبرانية كلها أمور قد تؤثر على استمرارية الأعمال. لذا، من الضروري أن يكون لدى كل مؤسسة رؤية استراتيجية طويلة المدى، تتضمن:
- استباق المخاطر بدلًا من رد الفعل لها.
- الاستثمار في الابتكار واستشراف المستقبل.
- تعزيز التعاون مع الشركاء المحليين والدوليين لتقليل الاعتماد على مصادر محدودة.
- تحديث خطة استمرارية الأعمال بشكل مستمر بناءً على المستجدات والتغيرات في البيئة الخارجية والداخلية.
5. خاتمة
لقد علمتنا الجائحة أن المرونة والاستعداد هما سلاح المؤسسات في وجه الأزمات. لم يعد بالإمكان تجاهل أهمية خطة استمرارية الأعمال، فهي ليست مجرد وثيقة إدارية، بل استراتيجية حيوية تضمن بقاء المؤسسة، وحمايتها، وقدرتها على التعافي والنمو مهما كانت التحديات.
إن الشركات التي استثمرت في هذا الجانب واستفادت من دروس الجائحة، أصبحت أكثر نضجًا واستعدادًا للمستقبل. فالمؤسسة الجاهزة ليست هي التي لا تواجه الأزمات، بل هي التي تعرف كيف تتعامل معها وتنهض بعدها أقوى مما كانت.